لهذا نقرأ الأدب الكلاسيكي
ما الفائدة من قراءة القدماء؟ إنهم ليسوا من عالمنا، ينامون بسلام ولا يريدون منا أن نوقظهم. لندع الموتى يدفنون الموتى. قد نتردد برهة في حكمنا ونفترض أن هناك ربما منافع ومزايا يمكن جنيها من مرافقتهم، لكننا سرعان ما نشيح بوجهنا عنهم، ولسان حالنا يقول: ينبغي أن نقرأهم، لكننا لا نفعل، يظل الأمر أمنية غامضة.
والغريب أننا على الرغم من كوننا لا نقرؤهم ، نتصرف كأننا قرأناهم وندعي معرفة إنتاجهم. شخصيا لم أقرأ الإلياذة، لكنني أعرف محتواها. وبالمناسبة من يقرأ دون كيخوطي؟ أغلبية الناس لا يعرفونه إلا من خلال رسوم الفنان غوستاڤ دوري، أو عبر ذكرى صفحات من كتاب مدرسي. ينطبق هذا على جل المؤلفات التي تنعت بالكلاسيكية. ماذا يعني هذا النعت ؟ قدم إيطالو كالڤينو أربعة عشر تعريفا له، افتتحها بالقول إن الكتاب الكلاسيكي هو الذي يعلن القارئ أنه يعيد قراءته، ولا يقول أبدا إنه يقرؤه .
من المعلوم أن لكل أدب تسلسله الزمني الخاص، وتسمية فريدة لمراحله. كمثال بسيط يطلق على الباحث الفرنسي في أدب القرون الوسطى نعت «مِيدييڤِست» (پُول زُومْطُور من الباحثين المتميزين في هذا المجال). هل يمكن إطلاق هذا النعت على باحث مهتم بالنصوص العربية في الفترة نفسها، سواء أكان الباحث عربيا أم غير عربي؟ يبدو لي أن هذا مستبعد، ذلك أن مصطلح القرون الوسطى لا يتلاءم مع التاريخ العربي ولا يتوافق مع ما نعرفه من تطور الأدب العربي. لكل أدب تقويمه، وتسلسله الهرمي، وكلاسيكياته، وحتى عصره الكلاسيكي. بالنسبة للفرنسيين، كما هو معروف، العصر الكلاسيكي بامتياز هو القرن السابع عشر.
في الثقافة العربية، تبدو الأمور معقدة لأول وهلة. أولاً، هل لكلمة كلاسيك ما يعادلها في اللغة العربية؟ يتم استخدامها أحيانا للإشارة إلى الأدب القديم، يُنعت بالأدب الكلاسيكي، ولكن غالبا ما يُشار إليه بالأدب القديم تمييزا له عن الأدب الحديث. يوجد متخصصون في هذا أو ذاك، كما لو أننا أمام أدبين مختلفين، عالمين متباينين، لكن الواقع أنه عندما يذكر أحدهما فإن الآخر يتبادر إلى الذهن على الفور. في كثير من الحالات يتم الحكم على الأدب العربي القديم من خلال ما جاء بعده، من خلال الأدب الحديث. وعلى العكس من ذلك، وكما يشير إيطالو كالڤينو، فإن الكتاب الكلاسيكي «يجعلنا نحدد أنفسنا بالمقارنة معه، وربما بمعارضته». ومهما يكن فإن من يدرس مؤلفا كلاسيكيا عربيا يكشف حتماً عن أصله ومَحتِده، نعرف توا هل هو عربي أو فرنسي أو أمريكي مهما كانت اللغة المستعملة.
ما هي، فيما يخص الأدب العربي، الأعمال التي من الواجب قراءتها؟ نعثر على جواب في مقدمة ابن خلدون. في حديثه عن علم الأدب يقول مستشهدا بشيوخه، «إن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوينَ وهي أدب الكُتّاب لابن قتيبة، وكتَاب الكامل للمُبرّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتَبَع لها وفروع عنها». إنها مؤلفات أساسية لا غنى عنها ولا يجوز للأديب المبتدئ أن يتجاهلها، إذ باطلاعه عليها يطور بطبيعة الحال معرفته باللغة العربية، وبالأدب، وبفن الكتابة، ويصبح من حيث المبدأ أديبا مكتملا وقادراً على تأليف نصوص جيدة أو لا بأس بها. قَوْلِي هذا إعلان للهواة، للذين يحلمون بالكتابة باللغة العربية!
وصف نجيب محفوظ أحدهم في رواية له، خان الخليلي، وصف شخصا يطمح أن يصير مؤلفا، ولتحقيق هذا الهدف قرأ بكل عناية الكتب الأربعة التي ذكرها ابن خلدون. ماذا كانت النتيجة؟ على الرغم مما بذله من مجهود، ظل عاجزا عن الكتابة. بغض النظر عن هذا المثال، تظل فكرة شيوخ ابن خلدون مع ذلك جديرة بالاهتمام. أهناك قارئ عربي لا يرغب في قراءة الأعمال الأربعة المتميزة المشار إليها؟ فيما يخصني أخذت العبرة من فشل الشخص الذي ذكره محفوظ، فلم أقرأ سوى كتاب البيان والتبيين للجاحظ. ولهذا السبب فإنني لا محالة أديب ناقص.
ولكن هناك أشياء أخرى تدخل في الاعتبار. فإلى جانب الكتب المعتمدة المحلية، الوطنية، دعونا نسميها كذلك، أقصد المرتبطة بلغة ما، توجد كتب عالمية، معظمها يقرأ مترجما. وحتما يبرز السؤال: في أية ترجمة سنقرؤها؟ سؤال يطرح نفسه دائما حين نرغب في الاطلاع عليها، فمن المعلوم جيدا أن الكتب الكلاسيكية تنقل إلى عدة لغات وتتواصل ترجماتها داخل اللغة نفسها، تترجم باستمرار، فيتم تكييفها وبمعنى ما تعاد صياغتها.
ما تجدر الإشارة إليه أن مترجمي المؤلفات العربية المعتمدة معروفون، نعلم أسماءهم. إن ترجمة لا يرد فيها اسم من قام بها شيء نادر، بل لا يكاد يتصور. وإن حدث يصير محل تساؤل وشبهات وتخمينات. إلى هذا أشار أحدهم حين قال إن «الكتب الكلاسيكية هي تلك التي تُعرف أسماءُ مترجميها». هناك طبعا كتب ليست مترجمة ولكنها مع ذلك تُعتبر كلاسيكية في سياقها المحلي. لكن في هذه الحالة يُعرف شراحها، تعرف أسماءهم. الكتب الكلاسيكية هي تلك التي تعرف أسماء مترجميها أو أسماء شراحها، وربما أيضا أسماء ناشريها. وعادة ما يكون النص الكلاسيكي مصحوبا بتعليق، وفي بعض الحالات لا يكاد يفهم بدون تفسيرات في أسفل الصفحة، كما هو شأن المُعلّقات. ومن علامات طابعه الكلاسيكي أنه يُشكَل بالكامل، ليس فحسب بالنسبة للأشعار، وإنما كذلك بالنسبة لنصوص نثرية أساسية، مقدمة ابن خلدون مثلا.
من يقرر أن كتابا ما يمثل لحظة حاسمة، منعطفا ذا شأن، وبالتالي يتعين إدراجه في التاريخ الأدبي؟ من يقرر إدخاله في المقررات المدرسية؟ هنا نصل ربما إلى تعريف ليس بالجديد (الخامس عشر؟)، تعريف قد يعتبر تافها، لكنه مريح: الكتاب الكلاسيكي هو ذلك الذي يدرس في الصف المدرسي، في المؤسسات التعليمية.
مثلَ كل التلاميذ التقيت بالأدب العربي في المدرسة. من المهم التأكيد على أن اللقاء مع النصوص الأدبية هو لقاء مع اللغة العربية، وتحديداً مع الكتابة العربية، مع الفصحى. بمجرد أن تشرع في تعلم اللغة العربية المكتوبة تكون قد وضعت رجلا في حقل الأدب. في المدرسة التقليدية، كما في المدرسة الحديثة، يتعلم التلميذ اللغة العربية برسم حروفها. النص الكلاسيكي هو المكتوب بالفصحى، وهو الذي يُدرَس تحت إشراف أستاذ، وأحيانا يلزم حفظه عن ظهر قلب. استظهار الشعر كان فيما مضى (هل ما يزال؟) تمرينا إجباريا، مجدولا ومعتمدا في تنقيط الامتحان.
من جملة ما حفظناه قصيدة من سقط الزند لأبي العلاء المعري يمدح فيها نفسه، قصيدة فخر:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلُ عفاف وإقدام وحَزْم ونائلُ
وفيها يقول:
وقد سار ذكري في البلاد، فمَنْ لَهُم بإخفاء شمس ضوؤها متكامل
الرفعة، السمو، الأعالي، أبو العلاء… يقارن نفسه بالشمس، هو الذي فقد البصر منذ سن الرابعة. كنا نعرف ذلك، لكن ما غاب عنا أنه ألف هذه القصيدة البديعة والمذهلة فنيا حين كان في الخامسة عَشَرَ من عُمُره. كنا نحن حينذاك في العاشرة أو الحادية عشرة. كان ذلك في 1956، سنة حصول المغرب على الاستقلال، وكان المستقبل مفتوحاً أمامنا ومشرقاً. كل واحد منا كان مدعوا إلى مصير استثنائي، أو كان يتخيل ذلك، تماماً مثل أبي العلاء. أليس هو من يقول في قصيدته:
وإني وإن كنت الأخير زمانُه لآت بما لم تستطعه الأوائل
بماذا كان عليه أن يأتي؟ بفن شعري جديد، لا شك في ذلك. لم يقل المتقدمون كل شيء ، لا تزال هناك أشياء لم يكن بوسعهم قولها. يتحدّاهم أبو العلاء ويطرح أيضا تحديا على نفسه: بالإمكان إبداع قول جديد، وباعتبار ما حدث فإنه لم يُخِل بوعده، أنجز شعرا أصيلا وربما تفوق على السلف، سبقهم بمعنى ما.
لكننا ونحن تلاميذ عمُرنا عشرُ سنوات أو إحدَى عشْرَةَ، كيف تلقينا هذا البيت المدوي الباهر؟ هل فكرنا، ونحن ننشده، أننا على الرغم من كوننا جئنا فيما بعد، وأننا متأخرون، سنفعل ما لم تستطعه الأوائل؟ ربما فكرنا في ذلك، وإلا لماذا كنا في المدرسة؟ ثم، وهذا أكثر أهمية، لماذا اختار معلمونا تلقيننا هذه القصيدة بالذات، قصيدة فخر واعتداد بالنفس؟ أغلب الظن أن الأمر لم يكن من قبيل الصدفة، فالأرجح أنها اختيرت لتقدم لنا كمثال يُحتذى.بعد مدة، حفظنا
قصيدة أخرى من نفس ديوان سِقط الزند، وهي التي تبدأ بِ:
غَيرُ مُجْد في مِلَّتي واعتقادي نَوحُ باك أو ترنُّمُ شاد
تختلف نبرة الشاعر هذه المرة، لم تعد نبرة غطرسة وشموخ، وإنما نغمة كآبة مشوبة بمرارة، وبقدر من سخرية لاذعة. فأبو العلاء، على عكس ما يشاع عنه أحيانا، ليس بالمؤلف الجاف، بل هو مؤلف مرح، يتحلى بحس هزلي متميز. في هذه القصيدة يتعلق الأمر أيضا بالمتقدمين، بالسابقين، بالموتى، تبدو الأرض كمقبرة شاسعة، «قبورنا تملأ الرحب». إننا ندوس على أجساد الموتى دون أن ننتبه إلى ذلك؛ لنتعلم بالتالي المشي بتواضع، أو كما يقول أبو العلاء:
خفِّفِ الوَطْ ء، ما أظنُّ أديمَ الـ أَرضِ إلا من هذه الأجساد
وقـبـيح بـنا، وإن قَـدُمَ العَـهْ دُ، هوانُ الآباء والأجداد
من واجبنا أن نعتني بمن سبقونا، بأسلافنا. لا يليق بنا أن نتجرأ عليهم ونستفزهم، وإنما أن نتعايش معهم في وئام. أكبر احترام لهم ألا ننساهم وأن نستمر في الحديث إليهم. وتحقيقا لهذا الهدف علينا نحن التلاميذ الصغار أن نعمل على استمرار لغتهم، خصوصا أنهم لا يفقهون لغتنا إلا بالكاد. من خلال تعلم العربية الفصحى، سوف ننقذ، نحن الصغار، الموتى من النسيان ونضمن بقاءهم. يجب أن نتعلم لغتهم من اجل التحاور معهم وبهذه الطريقة سوف يتوهمون أنهم ما زالوا أحياء، فتخف معاناتهم وآلامهم. ذلك أن الموتى، إذا صدّقنا ما قال شارل بودلير في أزهار الشر، يتألمون:
يُعاني المَوتى، الموتى المساكين، من آلام كبيرة
هل أنسب بدون مبرر إلى أطفال من الماضي تفكيرا غير قابل للتصديق في مجال الكلاسيكية؟ بكل تأكيد، ولكن، عند الفحص الدقيق، ألم يكن يخطر ببالنا هذا النقاش في ذلك الوقت؟ ألم نكن نطرح على أنفسنا أسئلة دون أن نجرؤ على الإفصاح عنها؟ كانت تصلنا أصداء عن محاولات لتجديد الأدب العربي في القاهرة وفي بيروت، وبالفعل كانت المناقشة بشأن المتقدمين مثارة منذ وقت طويل. يمكن أن نقترح تواريخ مختلفة، من جهتي فإن التاريخ الذي أثبته هو عام 1855، تاريخ نشر الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق. في معرض تقديمه لكتابه، يخبر القارئ أنه سيتخلى تماما عن السجع، فضلاً عن المحسنات البديعية والصور البلاغية التقليدية. بانفصاله عن الكتابة النخبوية للحريري والزمخشري، دعا إلى كتابة موجهة، على حد تعبيره، «لأي قارئ كان»
دفع الشدياق الأدب العربي إلى مسار مختلف. يعلمنا التاريخ الأدبي أن تجديد الشعر يحدث عندما يقف شاعر ضد أسلوب، ضد تقليد أو مدرسة، ويكفي أن نتذكر في هذا الصدد تجربة آبي نواس وأبي تمام. بشكل عام، فإن الحيوية الأدبية رهينة بقوة التغلب على التقاليد وبتجاوز الخطابات السابقة. ماذا عن أبي العلاء المعري؟ لقد ذهب أبعد، ففي لزوم ما لا يلزم لم يكتف بمخالفة الأسلاف المتقدمين، بل خالف حتى نفسه. رفض موضوعات ومكونات الشعر التقليدي، وتبرأ صراحة من ديوانه السابق، سِقْط الزند.
يمكن أن نذهب أبعد، فندعي أن تجديد الشعر يتم عن طريق الابتعاد الصريح عن الشعر برمته. هذا هو ما يُستنتج من مقطع غريب في مقدمة ابن خلدون: «كان الكثير ممن لقِيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب». ويتابع قائلا إنهم «كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية». لنلاحظ أن ابن خلدون لا يعمم، فليس هناك إجماع لشيوخه بشأن الشاعرين. فقط يرى عدد لا يُستهان به منهم أن نظم المتنبي والمعري لا علاقة له بالشعر، ليس شعرا، لأنهما حادا عن المسارات المتعارف عليها في الشعر العربي. النتيجة غير المتوقعة من هذا الحكم أن أكبر شاعرين عربيين لم يكونا شاعرين. بيد أنهما، بتحررهما من الشعر، أنجزا ما لم تستطعه الأوائل. بتجاوزهما للتقاليد الشعرية، بتجاوزهما للشعر، ابتكرا فنا غريبا، غير مسبوق، وغير مسمى.
لنعد إلى تلامذتنا الصغار. قلت من باب الافتراض إن أبا العلاء كان يدعونا ضمنا إلى أن نكون مختلفين عن المتقدمين. من هم يا ترى هؤلاء؟ آباؤنا وأمهاتنا في المقام الأول. كنا بطبيعة الحال نقدرهم ونبجلهم، لكننا كنا نشعر أننا لن نكون نسخة عنهم، وأننا سنحقق شيئاً آخر، سنكون مختلفين. ماذا أقول، كنا مختلفين بالفعل، وكنا نعلم ذلك. ألم نكن نعرف، بالإضافة إلى اللغة العربية، لغة أجنبية، الفرنسية، لغة لا يعرفها آباؤنا، ناهيك عن الأجداد البعيدين؟
في ذلك الوقت، كانت نصوص في هذه اللغة مألوفة لدينا، كنا قد اطلعنا على قصائد لـِ ڤيكتور هوغو وتيوفيل غُوتْيي، فتجلى لنا حينئذ فرق واضح بين الأدب العربي والأدب الفرنسي. كنا نواجه تقليدين شعريين لا يمكن التوفيق بينهما في العديد من الجوانب. إذا اقتضى الأمر، يمكن تخيل قصيدة المعري التي تتحدث عن الموتى باللغة الفرنسية، لأن الموتى لديهم نفس الآلام… بعبارة أخرى تُستساغ ترجمتها، لكن مديحه الذاتي لا يمكن تصوره في الفرنسية. وبصفة عامة فإن العديد من الأنواع الشعرية القديمة ومن مواضيعها وصورها كانت تبدو لنا، ونحن ننظر إليها من خلال الأدب الفرنسي، قد عفا عليها الزمن، وغير لائقة. كان معلمونا أحيانا محرجين، على الرغم من التبريرات المهدئة التي كانوا يقدمونها.
وجدنا أنفسنا تدريجيا، بسبب التكوين المتبع في ذلك الوقت، أمام أسرتين من المتقدمين، أمام كلاسيكيتين، ماضيين أدبيين، ماضينا نحن، أو ما كنا نتخيل أنه ماضينا، والماضي الأوروبي الذي حل عندنا فجأة. وفي الختام، ماذا عن اليوم؟ ألا تتأثر كلاسيكيتنا بالآخر؟ ألا تُستمد قيمة الأدب العربي من الأدب الأجنبي؟